بعد سبع سنوات من حرب شنيعة ، حصلت الجزائر على استقلالها في 1962 . تمت إزاحة أبطال الحرب و الزعماء السياسيين للثورة بسرعة (كريم بلقاسم ، فرحات عباس...). و في حين كان محاربو الداخل منهكين ، كان "جيش الحدود" القابع على الحدود مع الجارين تونس والمغرب والمقيد بسبب أسلاك الكهرباء يستعيد حريته في الحركة .احتلف القائد العسكري لهذا الجيش هواري بومدين بأحد المدنيين ، واسمه أحمد بن بلة ، و اجتاح بجيشه الجزائر العاصمة بعد أن قتل في طريقه ألفي جزائري . استحوذ بومدين على السلطة مغيرا بذلك المسار التاريخي للثورة الجزائرية ، وأعلن أحمد بن بلة رئيسا . بعد ثلاث سنوات ، أزاح بومدين حليفه بن بلة عن الرئاسة وأعلن نفسه رئيسا (1965 ـ 1979). أرسى بومدين دعائم الـ"سيستام" ووضع البلاد على طريق الإشتراكية . والـ"سيستام" كلمة يستعملها الجزائريون لوصف النظام القائم الممثل بحزب واحد (جبهة التحرير) والجيش . لدى وفاة بومدين في 1979 وصل إلى أعلى هرم السلطة أحد الكولونيلات غير المعروفين واسمه الشادلي بن جديد . تميز حكم بن جديد بتسامحه مع التطرف وبجهله للمجتمع الذي يحكمه .
1 ـ إرهاصات الحركة الإسلاموية (1962 ـ 1988)
أ ـ استعمار ، تعريب ، أسلمة
كان تحقير الجزائري إبان الحقبة الإستعمارية سببا في رجوع قسم من النخبة إلى الإسلام . "جمعية العلماء" التي أسسها إبن باديس كانت تضع بين أولوياتها محاربة إسلام الأرياف واسلام الأولياء الصالحين اللذين تمثلهما الى الجهل . كانت تريد أن تمارس باسم الاسلام مراقبة أخلاقية على المجتمع وأن تعيد الإعتبار إلى تعليم اللغة العربية . غداة الإستقلال أدمجت السلطة عناصر "جمعية العلماء" في صفوفها واستطاع قائدها ، البشير الإبراهيمي ، أن يضع بعض أعضاده وتلامذته داخل أجهزة الدولة وأن يواصل في نفس الوقت التنديد بالإختلاط بين الجنسين والتنديد بـ"التغريب" .
لكن قسما من الإسلامويين لم يكن راضيا عن هذا الإندماج داخل الدولة وأجهزتها . لذلك قاموا بتأسيس جمعية جديدة تحمل نفس التوجه وأطلقوا عليها إسم "القيم" . كان من بين أعضائها : تيجاني هاشمي ، عباسي مدني ، عبد اللطيف سلطاني ، أحمد سحنون وعمر العرباوي (والأخير هو الأب الروحي لعلي بلحاج). وعلى منوال الإخوان المسلمين في مصر ، كانت الجماعة تريد إعادة الإعتبار إلى الإرث الإسلامي الذي عانى حسبها من تحقير المستعمر الفرنسي . تولى بومدين حل المنظمة إثر وقوفها ضد إعدام سيد قطب في مصر . لكن أعضائها واصلوا عملهم السياسي من خلال توزيع المناشير ومن خلال الدعوة في سنة 1982 إلى تطبيق الشريعة .
في نفس الوقت واصلت الدولة على طريقتها عمل العلماء من خلال إعلان الإسلام دينا للدولة ومن خلال بناء المساجد في كافة جهات البلاد . ثم شنت حملة تعريب المؤسسات الرسمية وتعريب التعليم ، وهي حملات لم تكن تلاقي إجماع الجميع . وبما أن الإطارات الجزائرية كانت في مجملها فرنكوفونية فقد تم جلب المعلمين من سوريا ومن مصر . وهكذا تم عرض أطفال المدارس إلى البروباغاندا العروبية والإسلاموية خاصة من طرف مصريين جاءوا لترويج أفكار حسن البنا . تحولت دروس الرياضيات إلى دروس في التربية الدينية . ترك التراث الشعبي الجزائري وبخاصة الثقافات البربرية على الهامش وعوضتها إيديولوجيات قادمة من الشرق .
خلال السنوات 1980 تكونت جماعات أصولية داخل الجامعة الجزائرية (رجال ملتحون ونساء بالحجاب) وكما هو الحال في جامعات تركيا مثلا دخلت هذه الجماعات في مواجهات مع الطلبة التقدميين وطلبة اليسار . لا يزال النظام التعليمي الجزائري مخترقا من طرف الإيديولوجيا الاسلاموية المتطرفة : إذ كان الفشل الدراسي يرمي بالأطفال والمراهقين إلى الشوارع حيث تتلقفهم الشبكات الإسلاموية خصوصا في الأحياء الشعبية . وفي ظل الظلم والـ"حقرة" اليوميين وبعد إقصائهم من التمتع بعائدات النفط المحتكرة من طرف الطبقات الحاكمة (جبهة التحرير والجيش) ، في نظام يتميز بافشاء الرشوة و الفساد يجد الشباب الجزائري نفسه متروكا للتكافل الإجتماعي والتضامن الشعبي الذي تكفله منظمات ذات توجهات متعصبة .
ب ـ شيوخ الاسلاموية أوالأتقياء الأوائل :
غداة الإستقلال ، ظهر على الساحة ثلاثة شيوخ يتحدون اسلام الدولة و يقدمون أنفسهم كورثة شرعيين للعلماء . رفض هؤلاء ، على عكس البشير الإبراهيمي الدخول في الأجهزة الرسمية . سنطلق على هؤلاء تسمية "الشيوخ الثلاثة" . هؤلاء هم : سلطاني ، صحراوي وسحنون الذين تميزوا منذ 1962 بنشاطهم الوعظي جعلهم ذوي صيت كبير كما عرفوا أيضا بنشاطهم الإسلاموي وبرفضهم القاطع للسلطة . بحكم كونهم عاشوا الإستعمار ثم حرب الإستقلال وبحكم كونهم أعضاء سابقين في جمعية ابن باديس فإن الشيوخ الثلاثة مثلوا شخصيات محاطة بهالة من القدسية بالنسبة للأجيال القادمة من الأصوليين . وقد أصبحت المساجد التي كانوا يقومون فيها بالوعظ مراكزا للنشاط الإسلاموي .
عبد اللطيف سلطاني (1902 ـ 1984)
من مواليد الأوراس ، كان سلطاني مكلفا من قبل إبن باديس بنشر الإصلاح الديني في جهة قسنطينة . كان خريج الزيتونة وقد شغل مناصب عدة في جمعية ابن باديس قبل أن يصبح إماما لمسجد النور في العاصمة الجزائرية . رفض سلطاني تعلم اللغة الفرنسية لأنها لغة "كفار" . في سنة 1965 ، ولما كان إماما لمسجد كاتشاوة ، هاجم الإختلاط بين الجنسين وهاجم لباس بعض الفتيات في استعراض وطني :
"ما نندد به ، وما نرفض أن يتكرر ، هو أن يزج في مثل هذه العروض بفتيات بلباس فاضح لا يستر من أجسادهن إلا القليل . كانت المرأة التي تمثل كل سكان هذا البلد والتي تتقدم العرض تلبس تنورة ! هذا ما لا يمكن أن نقبل به أو نسكت عنه."
إبان هذه التصريحات تم تسريحه من عمله ، ثم عاد إلى العمل كمرشد ديني بالقصبة إبان إنقلاب بومدين . ثم عزل مرة أخرى . تحول إثر ذلك إلى التعليم فشغل منصب أستاذ تعليم ثانوي وواصل وعظياته في مساجد "مستقلة" . لكن ما جعل منه إسما كبيرا في الحركة الإسلاموية الجزائرية ، زيادة على نقده العنيف للسلطة ، هو مساهمته في تشكيل إيديولوجية الحركة بنشره لكتب : "المازدكية أصل الإشتراكية" ، "سهام الإسلام" ،" نحو نظرية اسلامية"
كان سلطاني يرفض لقب "شهداء" لوصف مقاتلي حرب التحرير لحجة أنهم لم يموتوا من أجل الدين بل من أجل تجربة نظام مستورد هو الإشتراكية . لما توفي في سنة 1984 مشى في جنازته 20 ألف شخص وكانت جنازته حدثا سياسيا في حد ذاته .
أحمد سحنون (1907 ـ 2003)
أصيل منطقة بسكرة ، دخل أحمد سحنون جمعية العلماء التي أسسها ابن باديس وبدأ نقده مبكرا لسلطة الإستعمار في مواعظه بمسجد بولوغين بالعاصمة مما أدى إلى اعتقاله من طرف المستعمر . بعد الإستقلال ، وقف ضد الإشتراكية التي اعتمدتها السلطة ورفض في 1968 راتبه الشهري كإمام معين من طرف وزارة الشؤون الدينية . تفرغ للوعظ الديني ، خصوصا بعد 1974 ، في مسجد الأرقم أين كان يكون الأجيال الجديدة على الأفكار الإسلاموية . بعد ذلك أصبح عدد كبير من تلاميذه على رأس الجبهة الوطنية للإنقاذ (فيس) . بعد توقيعه على اتفاق نوفمبر 1982 مع عباسي مدني وضع تحت الإقامة الجبرية (لم تكن سنه تسمح باعتقاله) ثم أخلي سبيله . كان أحمد سحنون يتمتع بصيت كبير وكان يمثل بالنسبة للتيار "الجزائراني" أبا روحيا . كانت تمثل الجمعية التي أسسها (رابطة الدعوة الإسلامية ـ أسست في فيفري 1989) مكان التقاء الإسلاموين الجزائريين. لم يشارك مباشرة في تأسيس الفيس ، ثم أسس جمعية جديدة في 1990 أطلق عليها اسم "الجمعية الإسلامية للبناء الحضاري" وذلك في إطار سعيه إلى توحيد قوى الإسلام السياسي . لقيت هذه الجمعية ترحيبا من قادة الفيس . في 21 ديسمبر 1989 دعا سحنون النساء المحجبات إلى التظاهر ضد "الحركات النسوية العلمانية ـ الشيوعية" ثم نجح في جمع تأييد آلاف المحجبات لصالح قانون الأسرة الذي جعل من المرأة الجزائرية قاصرة مدى الحياة .
عبد الباقي صحراوي (1908 ـ 1995)
كان صحراوي من قدماء جمعية العلماء . تلقى تعليمه باللغتين العربية والفرنسية في معهد ثانوي فرنسي وفي مدرسة تقليدية ببسكرة . بين 1955 و 1962 لم يشارك في المعارك لكنه شغل منصب الكاتب العام للقسم الإفريقي لـ"القوة العاملة" (نقابة فرنسية). رجع إلى الوطن بعد الإستقلال وتفرغ لتعليم اللغة العربية حتى تقاعده في 1977. قام بالوعظ في مسجد الأرقم إلى جانب أحمد سحنون وناضل بين 1980 و 1989 ضمن الحركة الإسلامية . شارك في تأسيس الفيس وتم تشريفه كقائد تاريخي بدعوته إلى قراءة شهادة ميلاد الجبهة . بعد تعطيل المسار الإنتخابي هرب إلى باريس ودعا من هناك إلى الجهاد . رفض رغم ذلك تصدير العنف إلى فرنسا مما كلفه حكما بالموت من قبل الجماعة الإسلامية المسلحة (جي ـ إي ـ آ) . اغتيل عن عمر يناهز 85 سنة في الدائرة الـ18 لباريس وشهدت فرنسا بعد ذلك موجة تفجيرات .
ج ـ الشبكة الأفغانية
في نهاية ديسمبر 1979 احتل الإتحاد السوفياتي أفغانستان ونصب حكومة موالية له على رأس البلاد . أصبحت معارضة المجاهدين للتدخل السوفياتي بفضل تمويل الأمريكان (السي ـ آي ـ أي) والسعوديين في إطار الحرب الباردة قتالا عنيفا ضد "الطاغوت الشيوعي" .لم يتأخر الاسلامويون الجزائريون عن الموعد...
في النصف الأول من الثمانينات تطوع مابين 3000 إلى 4000 جزائري لإعانة إخوانهم في أفغانستان في جهادهم ضد الروس . رجع منهم حوالي الألف شخص إلى الجزائر بعد الحرب ، وقد كانوا مدججين بالإيديولوجيا الإسلاموية ومدربين على القتال . في حين ذهب ألف آخرون إلى الشيشان وإلى البوسنة . وقد كان هؤلاء المجاهدون يرحلون إلى أفغانستان على إثر حملات تعبئة في المساجد الجزائرية كانت تعلم بها السلطة . وقد عرف عن محفوظ النحناح ذو الماضي العنيف (قام بإتلاف أعمدة الهاتف إحتجاجا على ميثاق 1976) مسؤوليته عن عدة عمليات تصدير للمجاهدين إلى أراضي القتال الأفغانية وذلك تحت غطاء العمرة . كان الهدف غير المعلن هو إكساب بعض الشباب الجزائري خبرة قتالية تستعمل بعد ذاك على التراب الجزائري ذاته . كان المنتدبون الجدد يسافرون عبر ليل أو نيس ثم السعودية ثم يصلون إلى بيشاور أين تتكفل بهم المنظمات العسكرية الإسلاموية . ثم كان رجوع جزء منهم بعد سنوات الحرب إلى الجزائر عاملا حاسما تأجيج العنف كما سنرى ذلك لاحقا.
المقال القادم : بوادر مؤسسة للعنف
_________